التسميات والتراث الوطني الفلسطيني / صراعياً
لقد أوجدت الصهيونية وكيانها في فلسطين المحتلة، خارطة للبلاد انطوت على بنى وسمات مغايرة لهويتها القومية، وتحولت عبرها العلاقة بين المكان ومحيطه العربي من وضعية التوافق والتآلف إلى حالة التضاد والتنافر. وشكل هذا الأمر تحدياً بالغ الخطورة، ليس فقط للوجود العربي الفلسطيني في البلاد، وإنما أيضاً لطبيعتها الحضارية وذاكرتها التاريخية .
ولم يعد خافياً كيف يطبق الصهيونيون قانون التغييب السكاني والحضاري على التراث الوطني الفلسطيني، وكيف ينتحلون هذا التراث بما يناسب ادعاءاتهم وتوجهاتهم. فيما يطمسون منه مالا يستطيعون تزييفه ونسبته إليهم، بهدف تفكيك الشخصية الفلسطينية وإلغاء خصوصيتها. لماذا ؟! لأن هذه الشخصية راسخة بمكوناتها وخصائصها واستمراريتها. ناهيك عن كونها أصيلة وصدامية ( مارست جميع أشكال الصراع مع الصهيونية ) ووطنية (تجسدت بالدفاع عن الهوية وبالموقف الموحد من قبل المسلمين والمسيحيين في مواجهة العدو) وتوحيدية ( على مستوى فلسطين ومحيطها المباشر والوحدة العربية ككل ) .
إزاء التحدي الصهيوني، يغدو من المهم التركيز على التراث الشعبي الفلسطيني، باعتباره أحد مكونات الشخصية الوطنية الفلسطينية الحية، خاصة وأن هذا التحدي يتضافر مع الآثار السلبية للعولمة الثقافية التي تحاول الهيمنة على الخصوصيات الوطنية والقومية وتقزيم التمايزات وتغطية الملامح والسمات المعبرة عن أي هوية مستقلة. يضاف إلى هذا أن التركيز على قيمة المسألة التراثية بالنسبة لشعب فلسطين وقضيته، يأتي موضوعياً من واقع ديمومة ارتباط هذا الشعب بوطنه، وضرورة تغذية الحقيقة القائلة إن التراث الفلسطيني لم يكن له أن يتكوّن لولا الصلة الوثيقة للإنسان الفلسطيني بأرضه وتاريخه وحضارته. وبهذا المعنى، إن الحفاظ على هذا التراث هو حفاظ على أحد المقومات الرئيسية لخصائص الوطن الفلسطيني وهويته القومية / الإنسانية. ذلك أن التنصل من الماضي، في الموضوعات المتعلقة بفلسطين، واقعاً وحضارةً، يعتبر جريمة تتكامل نتائجها مع عمليات الاغتصاب والتهويد الصهيونية للبلاد .
من المهم الإشارة هنا إلى أن وضع التراث على قائمة أولويات العمل الوطني / القومي، لا ينبع من مجرد رغبة رومانسية بإحياء الماضي أو إعادته من حيث هو ماضٍ، وإنما المسألة هنا تتعلق بفعل وطني ـ إنساني يشكل جسراً لتقرير المستقبل وفق عملية التطور التاريخي. وفي ضوء هذا التحديد لدور التراث، ثمة ما يدعو إلى تقريب الماضي من الحاضر في سبيل المستقبل، بعيداً عن الإغراق في سحر الماضي وجاذبيته، وبعيداً عن رفض الماضي بذريعة المعاصرة. لهذا فالبحث عن التراث بإبعاده المختلفة من أجل إعادة اكتشافه هو ـ كما يقول د. سامي مرعي ـ ضروري لتجديد الشخصية الحضارية والوطنية، لأن هذا التراث نما على أرض، على وطن. ولكن هذا شرط غير كاف مع أنه ضروري. فإذا توقفنا عند بحث التراث وتدوينه نقع في شبكة العقم الفكري التاريخي المتحفي، بينما المطلوب أن يكون هذا البحث خطوة تقود إلى خطوات أخرى، في سبيل ربط التراث بالواقع، وفق دينامية التطور العلمي المدروس، في سبيل مستقبل يعكس وجوداً فكرياً ومادياً غير مشوه وغير مبعثر.
ضمن التراث الوطني الفلسطيني، ثمة حضور لأسماء المعالم الفلسطينية يعكس جانباً مهماً من هوية البلاد، ذلك أن هذه الأسماء ليست إشارات عابرة تتعلق بالمكان، بل هي تعبير عن الارتباط الموغل في القدم بهذا المكان. إنها تحمل نبض المكان وتاريخه، لاسيما وأنها صدرت بالأصل عن صورة جماعية للواقع. وفي وضعية كهذه، تؤدي الأسماء عدة وظائف دفعة واحدة : اجتماعية ـ نفسية ـ عاطفية ـ قيمية ـ معرفية ـ تربوية ـ نفعية ..الخ. وعلى هذه الوظائف تدور المعركة مع الكيان الصهيوني بشأن عملية تغيير أسماء المعالم الفلسطينية، لتؤدي الأسماء الجديدة الوظائف ذاتها لكن في الدائرة اليهودية .
إن أحد المنطلقات المنهجية لعملنا هنا، هو أن الكيان الصهيوني قوة محتلة، وبالتالي لا يحق لهذه القوة إجراء تغييرات تستهدف طمس التراث الثقافي للشعب الواقع تحت الاحتلال أو الذي طرد من بلاده بسبب هذا الاحتلال. وعند هذه النقطة تعود المسألة بطبيعة الحال إلى صراع بين المطلق والمطلق، بين النافي والمنفي، بين نقيضين لا سبيل لتآلفها، تماماً كما يتعذر الانسجام بين الظلم والعدالة. لقد بنوا مستعمرات على الأرض العربية واستحدثوا بنى واصطنعوا هيئات ومعالم جديدة، ثم قاموا بتسميتها، هذا شأنهم طالما أننا تناول المسألة من زاوية اغتصاب الأرض برمَّتها، لكن تهويد الأسماء الثابتة على الخرائط وفي الذاكرة أمر يمثل بحد ذاته اعتداءً على الشخصية الفلسطينية وعلى الهوية العربية للبلاد. وأمام اعتداء كهذا نحن مدعوون إلى حماية أسماء معالم البلاد من الضياع والاندثار، مدعوون إلى إحيائها في سبيل توثيق الصلة بين الأرض وشعبها، وتعزيز الترابط بين ماضي هذا الشعب وحاضره ومستقبله. هذه هي كلمة السر في إعادة الاعتبار إلى الأسماء العربية، ورفض عمليات التهويد الصهيونية .
مـاذا عن المواجهــة ؟!
إن تحدياً خطيراً بحجم الإجراءات الإسرائيلية المتخذة لطمس عروبة فلسطين وتزييف هويتها الحقيقية، يستدعي مواجهته على المستويين الجماعي والفردي. وإذا كانت عملية المواجهة لم تحدث بالقدر المطلوب، إلاّ أن ما ظهر من أنشطة يعدُّ نواة مناسبة لبناء قلعة تحمي التراث الفلسطيني والأسماء الفلسطينية من التهويد والانتحال. وننوه هنا بالأفكار والمشاريع والأعمال التالية:
1 ـ اجتماع حلقة الخبراء العرب في بيروت (23–31/8/1971) لتوحيد أسماء المواقع الجغرافية في الوطن العربي بإشراف الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية. ويومها شكلت ثلاث لجان، إحداها " لجنة فلسطين " التي كانت مهمتها مناقشة ما تقوم به إسرائيل من تغيير لأسماء المواقع الجغرافية في الأرض المحتلة. وقد شارك مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في أعمال هذه الحلقة، وقدَّم مذكرة تتضمن قائمة شاملة للمواقع الفلسطينية التي غيرت السلطات الإسرائيلية أسماءها إلى أسماء عبرية، مع ذكر الاسم العربي الأصلي لهذه المواقع. كما قدم المركز مجموعة من الدراسات والكتب والخرائط التي صدرت عنه بهذا الخصوص. وثمة حاجة للتوقف عند توصيات هذه اللجنة لأهميتها، وهي :
i. تحقيق بالأسماء العربية الدقيقة للأعلام الجغرافية في فلسطين حتى منتصف أيار 1948 وبالأسماء الحالية المحرَّفة .
ii. تشكيل لجنة تضم خبراء في الجغرافيا والخرائط واللغويات وشؤون فلسطين تتولى هذه المهمة، وتحال نتائج عملها إلى م. ت. ف لإبداء الرأي، ثم تقوم الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بنشر هذه النتائج على الصعيدين العربي والدولي.
iii. تسجيل الأعلام الجغرافية المحققة على خارطة مليونية، ثم على خارطة بمقياس 1: 250000 ثم على ثالثة منفصلة بمقياس 1: 100000 بحيث تصبح هذه الخرائط مرجعاً علمياً وتراثياً وجغرافياً لفلسطين العربية .
iv. تقوم الإدارة الثقافية بتعميم قوائم الخارطة المليونية التي راجعتها لجنة فلسطين وصححتها على البلاد العربية، وإرسال نسخ منها إلى " المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة " وإلى منظمة اليونسكو لتثبيت الأسماء العربية الأصلية وما يقابلها بالحروف اللاتينية.
تتصف هذه التوصيات بأهمية بالغة، وتمتلك من الشمولية والوضوح ما يجعل أي زيادة عليها ( حتى بعد مرور عقود على اتخاذها ) أمراً يدخل في عداد التكرار. ومع ذلك ثمة حاجة للتذكير بضرورة إنجاز أو استكمال ما تحدثت عنه التوصيات. ونقتبس عن الكاتب والأديب الفلسطيني علي الخليلي تأكيد الحاجة إلى قاموس وطني شامل لكل الأسماء التي تكاد أن تموت وتندثر فعلاً، تحت ضغط الأسماء التي ابتدعتها إسرائيل .. قاموس يشرف عليه خبراء مختصون ويطبع بأداء متقن ويجري توزيعه إلى كل مكان في الوطن، و تلتزم به وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.
2 ـ قيام مركز الأبحاث الفلسطيني بإصدار " بلدانية فلسطين المحتلة " من إعداد د. أنيس صايغ( عام 1968 ) متضمنة العديد من الأسماء الفلسطينية / العربية للمواقع. وإصدار " موسوعة فلسطين الجغرافية " عام 1969 للأستاذ قسطنطين خمَّار الذي صدر له أيضاً (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت عام 1980) كتاب يتضمن أسماء الأماكن والمواقع والمعالم الطبيعية والبشرية والجغرافية المعروفة في فلسطين حتى العام 1948 .
3 _ التدقيق الذي قدمه الباحث فرج الله صالح ديب في كتابه " معجم معاني وأصول وأسماء المدن والقرى الفلسطينية " ( الصادر عن دار الحمراء في بيروت / 1991 ). وفيه أكد أن تاريخ فلسطين أخضع للتزوير المتعمَّد، وغُرِّب الفلسطينيون واعتبروا غزاة من بحر إيجة، لحظة مارست الصهيونية سلاح الاقتلاع والنفي ومحو الذاكرة عبر تزوير الآثار وعبرنة أسماء الأماكن. وقد رصد المؤلف أسماء القرى والمدن والخرب / مع جذورها ومعانيها في القاموس العربي وما يماثلها من أسماء قرى ومدن وعشائر في المحيط العربي واليمن خاصة. وخلص الباحث إلى النتائج التالية :
- أسماء القرى والمدن والخرب الفلسطينية، هي أسماء عشائر عربية .
- لا وجود لأسماء عبرية في فلسطين .
- غالبية أسماء القرى والمدن الفلسطينية تتردد في اليمن ولبنان .
- غالبية الخرب الفلسطينية، تحول أصحابها إلى عائلات في المدن والمناطق اللبنانية، أو شكلوا قرى بالاسم نفسه أحياناً .
وأكد الباحث أن هذه العروبة الواضحة للأسماء الفلسطينية تكشف مدى الكذب والإسفاف في ما كتبه الغربيون عن تاريخ فلسطين، ومدى التزوير في إسقاط جغرافية التوراة على مناطق فلسطين وبلاد الشام عموماً.
4 ـ تنظيم عدد من الندوات والمؤتمرات التي تناولت القضايا الثقافية والتراثية والتاريخية الخاصة بفلسطين، ومنها على سبيل الذكر :
- الندوة العالمية الأولى للآثار الفلسطينية التي عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (في جامعة حلب )، أيلول / سبتمبر 1981 .
- المؤتمر الأول للجمعية العالمية للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني / تونس ، أواخر العام 1982 .
- الندوة العالمية لدعم وحماية الثقافة العربية الفلسطينية في الأرض المحتلة بمبادرة من المجلس القومي للثقافة العربية بالرباط والحركة الثقافية لعموم اليونان / أثينا 39/3 _ 1/4/1986. ويومها تحدث الأديب محمد علي طه ( المقيم في فلسطين المحتلة ) عن مسألة التهويد قائلاً :منذ السنوات الأولى أيقنـّا نحن الذين بقينا منغرسين في وطننا أن حكومة إسرائيل ـ بعد أن أفشلنا بأجسادنا محاولاتها لاقتلاعنا من وطننا ـ أخذت تعمل جاهدة وبدهاء لخنق لغتنا العربية ومحو حضارة شعبنا العربي الفلسطيني وتراثه. وأضاف : نحن نعيش معركة ثقافية، ومن أجل بقائنا وبقاء أطفالنا، ومن أجل مستقبل شعبنا، وجدنا أنه ممنوع علينا أن نيأس، وممنوع علينا أن نرتاح، وممنوع علينا أن نضعف. نحن نعيش ظروفاً خاصة ،ظروف المواجهة طوال الأربع وعشرين ساعة في اليوم. عندما نرى أنهم بعد أن سلبوا شعبنا وطنه، أخذوا يسلبون تراثه ويمحون حضارته، كيف نيأس أو نضعف ؟! أحياناً كثيرة تخوض صحافتنا معارك من أجل اسم أو كلمة، نرى بها قضية وطنية من الدرجة الأولى. كيف لا عندما نسمع أو نقرأ أنهم يحولون اسم صفد إلى تسفات، واسم مرج ابن عامر إلى عيمق يزرعيل، واسم الخليل إلى حفرون.
5 ـ العمل المتميز والرائد الذي أنجزه الباحث الجغرافي د. شكري عرّاف ( المقيم في فلسطين المحتلة ) وأصدره ( عن دار الشفق في كفر قرع / 1992 ) بعنوان " المواقع الفلسطينية بين عهدين ـ خريطتين " وفيه أحصى المؤلف نحو 2780 موقعاً تم تغيير أسمائها، هي : 340قرية ومدينة ـ 1000 خربة ـ 380 عين ماء ـ 560 وادياً ونهراً ـ 14 بركة وبحيرة ـ 50 مغارة ـ 28 قلعة وحصناً وقصراً ـ 198 جبلاً ـ 210 تلال. ويعد هذا المرجع ـ على حد علمنا ـ الأشمل بين كل ما كتب إحصائياً وعينياً عن تهويد أسماء المعالم الفلسطينية .
6 ـ المبادرة القومية المسؤولة التي صدرت عن مجمع اللغة العربية في القاهرة، بالإعلان ( في نيسان / إبريل 1997 ) عن عزمه على مواجهة إجراءات التهويد الإسرائيلي لأسماء المواقع والأماكن التاريخية في القدس. حيث يعتبر هذا الإعلان مثالاً على الوعي العربي لمسألة الأسماء الفلسطينية .
.. تشكل هذه المساهمات وسواها مكونات مهمة في مواجهة عمليات تهويد الأسماء الفلسطينية. بيد أن هناك حاجة لأنشطة على نطاق أوسع تنطلق بوقائع المواجهة إلى مختلف الأمكنة التي يصل إليها الخطاب التهويدي الإسرائيلي، وتسعى إلى سد جميع الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها. إنها معركة حول الهوية والذاكرة ، وفي معركة كهذه لا تملك الأمة أي خيار غير نشدان الانتصار.