للوهلة الأولى يبدو الجمع بين الحرية والإسلام تناقضا بيّنا: فالدين قائم على العبودية لله "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الآية، أما الحرية فتبدو الحرية على الضد من ذلك تماما، انطلاقا من كل قيد، وهو ما سوغ لحزب التحرير رفع شعار "لا حرية في الإسلام".
كما ردد بعضهم أن مبحث الحرية غريب عن تراث الإسلام إذ لم يطرح إلا في سياقين: اجتماعي طرحت فيه الحرية مقابل الرق، وميتافيزيقي في سياق علاقة الإنسان بربه ومدى حريته في الفعل، حيث احتدم جدل المتكلمين بين مؤكد لحرية للإنسان لدرجة تنال من قدرة الله المطلقة (المعتزلة) وبين مدافع عن مشيئة الله المطلقة إلى حد نفي أي فارق حقيقي بين فعل الإنسان وحركة ظواهر الطبيعة.
وطرف ثالث حاول التوسط فقال بـ"كسب" للإنسان، ظل مثلا للغموض وأقرب للاندراج في الموقف الثاني الذي كاد يعم الساحة الإسلامية منذ القرن الخامس (الأشاعرة) حتى ظهور بوادر الإصلاح منذ قرنين.
فهل بقي مجال للحديث عن الحرية بمعناها الإنساني الاجتماعي في الإسلام؟
1-حرية الإرادة والعقل شرط التكليف:
غير أننا إذا صرفنا النظر عن المماحكات الكلامية ودققنا النظر في طبيعة رسالة الإسلام ومقاصدها العليا سيرتفع هذا التناقض المصطنع.
فالإنسان وإن كان مستخلفا وليس إلها، وهذا الاستخلاف يفترض آمرا هو الله عز وجل ومأمورا هو الإنسان، فإن هذا الاستخلاف مشروط بتوفر شرطين في المستخلف: العقل والحرية، وهما جوهر الأمانة التي تشرّف بها الإنسان، وتهيّبتها كل المخلوقات الأخرى. "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان" الآية.
"
الحرية والعقل مناط المسؤولية والتكليف، كما يقول الأصوليون، وذلك أثر لتكريم الله للإنسان, هذا التكريم يجعل للفعل الإنساني قصدا قائما على الاختيار بين عبادة الله عن وعي وإرادة وبين التمرد
"
فالحرية والعقل مناط المسؤولية والتكليف كما يقول الأصوليون، وذلك أثر لتكريم الله للإنسان "ولقد كرمنا بني آدم" الآية. هذا التكريم يجعل للفعل الإنساني قصدا قائما على الاختيار بين عبادة الله عن وعي وإرادة وبين التمرد.
قال تعالى مبيّنا لعباده طريق الرشد من الغي "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الآية. وقال معترضا على نبيه الحزين على إعراض قومه "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" الآية. وهو ما يفقد الأعمال "الإسلامية" كالصلاة والزكاة والجهاد والتحجب -بالنسبة للمرأة- كل قيمة عند الله إن لم تكن صادرة عن إرادة واعية حرة مسؤولة تبتغي مرضاة الله. "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" الآية.
وهنا ينتفي التعارض الظاهري بين الدين والحرية، بل تصبح الحرية كالعقل شرطا للتدين في حد ذاته. والتدين الصحيح يعززهما ويرتقي بهما، فوق مستوى الضرورة، على نحو تكون حرية الإنسان بحسب عبوديته وعلمه.
ولقد عبّر البابا بنيدكت السادس عشر عن مدى جهله بالإسلام أو تحامله، حينما ادعى أن الإسلام ضد العقل والحرية، بينما كل ما في الإسلام معقول ومحرِّر (بكسر الراء الأولى) ودعوة للتفكر والنظر في كل شيء، لأنه صادر عن حكيم فعال لما يريد.
فكل أفعاله سبحانه حكمة وعدل ورحمة، وكل ما هو من هذا القبيل فهو من الإسلام وإن لم يرد فيه نص مخصوص، وكل ما يناقض ذلك فليس منه في شيء (ابن القيم -الطرق الحكمية) إذ التوافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول قاعدة الفكر الإسلامي (ابن تيمية).
ولم يخطئ الفيلسوف الفقيه ابن رشد الذي علّم الغرب التراث الإغريقي حين عنون إحدى رسائله بـ"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" مؤكدا أن العلم بالكون هو السبيل للعلم بخالقه "ازدياد العلم بالصنعة يزيد علما بالصانع".
الإسلام عامل تمدين وتحرر: وليس خاليا من الدلالة ارتقاء الإسلام بشعوب غاية في البداوة والتخلف مثل العرب والبربر والترك والكرد والأفارقة في زمن قياسي إلى مستوى استيعاب تراث الحضارات السابقة مثل حضارة الإغريق والروم والفرس وتطويرها، وبناء مدائن مزدهرة بالتجارة والعلوم والفنون، تختلط فيها كل الأجناس وتتعايش كل الديانات حتى الوثني منها، مثل بغداد وقرطبة وسارييفو تحت حكم الإسلام، حيث أصبحت فضاءات حضارية مفتوحة اجتذبت إليها الكفاءات من كل الملل والأعراق ووفرت لها الشروط اللازمة للإبداع مثل حرية الاعتقاد والتعبير عنه، وكانت أوروبا راسفة في الجهالات ويتعرض للتحريق ومحاكم التفتيش فيها كل مجترئ على تناول الإرث الحضاري الإسلامي أو اليوناني.
ولقد تعرضت تلك الفضاءات الحرة المفتوحة للمصادرة والاجتثاث لمّا ابتليت بتتر قدامى أو جدد، مشحونين بعقائد أغنوصية حلولية مثل الإسبان والصرب والأميركان، ففشت فيها حروب التطهير العرقي، وتعرضت للتصحر على أيدي أنظمة التخلف المعاصر.
2- الحرية وعقيدة القضاء والقدر:
وكان تفشى عقائد الجبر متخفية في عقيدة "القضاء والقدر" أحد عوامل ركود الحركة في مسيرة الإسلام، حتى إذا ظهرت الحركة الإصلاحية منذ زهاء قرنين تصدت لعقائد الجبر وللثقافة الأغنوصية الصوفية السائدة، مثبتة للإنسان إرادة حقيقية ومسؤولية عن مصيره، وذلك إحياء لمعاني القدر كما تعامل معها الجيل الأول من مؤسسي حضارة الإسلام، في النظر إلى القدر باعتباره إرادة الله عز وجل متجلية في هذا النظام الكوني العقلاني والشرعي الدقيق، القمِن إذا فقهه الناس وأحسنوا التعامل معه وفق الشرائع بضمان سعادتهم في الدنيا والأخرى.
وتلك هي الحرية في الإسلام: الخضوع الواعي لنواميس الكون والشرع. إنها ليست استباحة: افعلوا ما تمليه عليكم رغائبكم، فتلك "حرية" الحيوان، وإنما افعلوا الواجب الذي أمركم الله به تتحرروا من أهوائكم ومن تسلط بعضكم على بعض. إن الحرية والمسؤولية لا تنفصلان.
"
الحرية في الإسلام هي الخضوع الواعي لنواميس الكون والشرع, إنها ليست استباحة: افعلوا ما تمليه عليكم رغائبكم، فتلك "حرية الحيوان"، وإنما افعلوا الواجب الذي أمركم الله به تتحرروا من أهوائكم ومن تسلط بعضكم على بعض
"
وكان مسعى أساسي للحركة الإصلاحية منذ قرنين استعادة الفعالية الإسلامية المشلولة بتخليصها من العوائق التي تكبلها ومنها عقائد الجبر المستندة إلى فهم سقيم لعقائد القدر.
يقول المصلح الكبير محمد إقبال: "المسلم الضعيف يعتذر بالقضاء والقدر، والمسلم القوي هو قضاء الله وقدره".
إن هازلين يقترفون المعاصي متعللين بالقدر، بينما آيات الكتاب شاهدة على أن الله لا يرضى بالفواحش والمظالم بل هو سبحانه ينهى عنها ويتوعد مقترفيها في الدنيا والأخرى بأشد العقاب إذا هم لم يتوبوا: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" الآية.
وحدد رسول الإسلام أن التقرب إلى الله لا يكون بالمعاصي وإنما بالطاعات. إذ يروي عن ربه في الحديث القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها" رواه البخاري.
ومعنى ذلك أن العبد ما تقرب إلى الله إلا ارتقى إلى أفق من الاقتدار والحرية أعلى، وانفتحت أمامه أبواب أخرى للخير ومغالبة الضرورات التي تعترض طريقه.
إن التقرب إلى الله عمل إرادي اختياري لأنه ليس الخيار الوحيد الذي وضعه الله أمام الإنسان: "وهديناه النجدين" الآية. فإذا هو اختار عن بينة نجد التنكب عن الخير فتلك حرية خوّلها الله له، هي الحرية الشيطانية حرية الكفر التي خولها لإبليس ومن سلك سبيله. ولا حاجة للمسلمين في أن يظل بينهم -منافقا مندسا- من اختار ذلك السبيل.
أما المسلم الحق فهو من اختار بوعي وحرية التوجه إلى لربه بالعبادة بكل كيانه. وعلى قدر اجتهاده فيها يتحرر، وتتحرر لديه إمكانات الفعل، مغالبا قدرا بقدر. قدر العجز والكسل بقدر الإقدام والمغالبة. هكذا كان فهم الجيل الأول مؤسس حضارة الإسلام، لعقيدة القدر.
ذكروا أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في زيارته لبلاد الشام بلغه أن بها طاعونا، فتوقف يستشير صحبه هل يواصلون مسيرهم أم يعرضون؟ فأشار بعضهم بالمسير: هل نفر من أقدار الله؟ فاعترض الخليفة بشدة على هذا الفهم قائلا: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"، أي نفر من أسباب المرض إلى أسباب الصحة، كما نفر من أسباب الفقر إلى أسباب الغنى. وبذلك يتم التحرر داخل الذات ليغدو ممكنا خارجها، حتى ليبلغ العابد درجة من القرب أن لو أقسم على ربه لأبرّه.
3- الإسلام ثورة تحريرية شاملة:
ومع أهمية "القدر" فإن حصر مبحث الحرية في تراث الإسلام في هذين السياقين المذكورين ليس صحيحا، إذ الحرية كالشورى لا تستمد من مجرد نص جزئي، باعتبارها مقصدا كليا من مقاصد الشريعة الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وأضاف إليها الأصولي الفقيه الكبير ابن عاشور مقصد الحرية والعدل (كتاب مقاصد الشريعة)، بما يوجب أن تكون الأمة حرة، ليس بشكل جزئي ولكن في كل جوانب حياتها، إذ تسقط كل تكاليف الشرع في غياب العقل والحرية والعلم. وفي الحديث: "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: الخطأ والنسيان والإكراه"، أخرجه وصححه ابن حبان.
"
لم يخطئ القول أكبر منظّري الإسلام المعاصر أبو الأعلى المودودي وسيد قطب إذ عرّفا الإسلام بأنه ثورة تحررية شاملة تنطلق من أعماق النفس والعقل والإرادة لتمتد إلى كل ركن من أركان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
"
وفي سورة الأعراف الآية 157 يحدد القرآن مهام النبي عليه السلام في أنه: "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فالدين جاء لكسر الأغلال التي تكبل النفوس والعقول والأجساد وتفرض استعباد الإنسان لأخيه الإنسان تحت أي مبرر.
ولذلك لم يأت الإسلام بالرق أو يأمر به، رغم أن الرق كان نظام العالم وأساس الإنتاج الاقتصادي، وإنما جاءت شرائعه محرضة على العتق والتجفيف التدريجي لمنابعه، ولذلك تواترت هذه العبارة على ألسنة العلماء "الشارع متشوّف للحرية"، رغم ما حصل في هذه المسألة كما في غيرها من انحرافات عن قيم الإسلام ومقاصده.
الإسلام دعوة للحرية وللتحرير, ولم يخطئ القول أكبر المنظّرين في الإسلام المعاصر أبو الأعلى المودودي وسيد قطب إذ عرّفا الإسلام بأنه ثورة تحررية شاملة، تنطلق من أعماق النفس والعقل والإرادة لتمتد إلى كل ركن من أركان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعلا حرا إيجابيا فرديا وجماعيا لا يعرف إليه القنوط والإحباط سبيلا. قال تعالى "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين" الآية، وفعلا تحريريا جهاديا ضد تسلط الفراعين والقوارين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استعن بالله ولا تعجز" أخرجه مسلم. وجمع رسول الله عليه السلام بين الكفر والفقر "كاد الفقر يكون كفرا" البيهقي.
4- العبادات منهج تربوي للتحرير:
وفي مسعى تحرير فعاليات المسلم المعطلة عمدت حركة الإصلاح إلى إبراز عنصر الإرادة والمسؤولية وقوة الفعل في عقائد الإسلام وشرائعه وعباداته، وصلتها بالحياة والسلوك والمقاومة والجهاد، وذلك بعد أن كاد الانحطاط يفرغها من كل بعد اجتماعي، بنوع من العلمنة العملية.
وجاءت ضروب الغزو الفكري لتستكمل المهمة تزهيدا في تلك العبادات، مؤسسا على نظرية الفصل بين الدين والسياسة والحياة جملة، وصولا بعد تفريغها إلى التخلص منها جملة، ومن أساسها العقدي، فكان ولا يزال هم المصلحين -بعد توكيد ركنيتها: فلا خير في دين بلا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا تلاوة، ولا جماعة- هو توكيد أن الأصل أن تنتج استقامة ومخافة لله وإحسانا للناس ومقاومة للمنكر، وعزة ونهضة للأمة.
كما أبرزوا ما تتضمنه تلك العبادات من قيم إنسانية كالأخوة والسماحة والعدل والنظام والحرية والتضامن. وكل عبادات الإسلام تدريبات على التحقق بذلك، وهو ما يبرر مشهد أسرة متحلقة حول مائدة حافلة بالمطعومات الشهية ولكنها تغالب ضغط الجوع في انتظار الإذن الإلهي بالإفطار.
"
إن من تمرّن في مدرسة العبادات الإسلامية بوعي وإخلاص يبلغ من التحرر مبلغا لا يطاله غيره، ولذلك عدّ الواحد من هؤلاء بوزن عشرة في ميادين القتال
"
وكذا مشهد المؤمنين وهم ينتفضون من مهاجعهم في الفجر استجابة للنداء الإلهي للصلاة جماعة، ومشهد حجاج بيت الله الحرام وهم يجتمعون في صعيد يلبّون بصوت واحد، وقد تركوا وراءهم الأهل والوطن، وكذا مشهد المزكين وقد انتصروا على شهوة الكنز، فدفعوا زكاة أموالهم بسخاء وليس لهم من رقيب غير الله.
وهي كلها مشاهد تحرر إنساني بامتياز وتضامن. إن من تمرّن في مدرسة العبادات الإسلامية بوعي وإخلاص يبلغ من التحرر مبلغا لا يصل إليه غيره، ولذلك عدّ الواحد من هؤلاء بوزن عشرة في ميادين القتال "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" الآية.
وليس من قبيل المصادفات أن تتهيأ قوى الاحتلال تهيؤا خاصا لمواجهة تصاعد المقاومة في شهر رمضان حيث تتكثف عبادات الإسلام: الصوم والصلاة والتلاوة والصدقات.
حقا لم يخطئ من عرّف الإسلام بأنه منهاج تحرري شامل لو فعّلت كل آلياته بمنأى عن كل طرائق العلمنة والتفريغ الجارية على قدم وساق لتحويل الصوم من موسم للتنافس على الطاعات إلى التنافس على المستهلكات والمسلسلات والتفنن في استثارة الشهوات.
ومع كل ضروب الكيد والتعويق لجهود المصلحين عن طريق إعادة الربط بين الدين والحياة بين الدين والعقل والحرية والتقدم، فإن الإسلام يتجدد، وتحت القصف وربما بسببه يتقدم.