بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن إهتدى بهديه وإستن بسنته أما بعد
أضع بين أيديكم مناظرة لعمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل وبين مجموعة بين الخوارج فأسكتهم بعلمه وحكمته , وكذلك يحتوي النص على جانب من الفقه والبلاغة
خرج سنة مئة بالجزيرة أحد زعماء الخوارج واسمه بسطام من بني يشكر، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز:
بلغني أنك خرجت غضبا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك؛ فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.
فكتب بسطام إلى عمر:
قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك، ويناظرانك، وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيا اسمه عاصم، ورجلا من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة، فأخبر بمكانهما، فقال :
فتشوهما لا يكن معهما حديد، وأدخلوهما.
فلما دخلا قالا :
السلام عليك.
ثم جلسا، فقال لهما عمر :
أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا؟ وما نقمتم علينا؟
فقال عاصم :
ما نقمنا سيرتك؛ إنك لتتحرى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟
فقال عمر :
ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي، فقمت ولم ينكره علي أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فاتركوني ذلك الرجل؛ فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم.
فقالا :
بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك.
فقال عمر :
وما هو ؟
قالا :
رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها مظالم، وسلكت غير سبيلهم؛ فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق.
فتكلم عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال :
إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا ومتاعها؛ ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها، إن الله -عز وجل- لم يبعث رسوله لعانا، وقال إبراهيم { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }. وقال الله -عز وجل- { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }. وقد سميت أعمالهم ظلما وكفى بذلك ذما ونقصا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها؛ فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟
قال :
ما أذكر متى لعنته.
قال :
أفيسعك ألا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني ألا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون.
قال :
أما هم كفار بظلمهم.
قال :
لا، لأن رسول الله دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه؛ فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد.
فقال الخارجي :
إن رسول الله دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده.
قال عمر :
فليس أحد منهم يقول : لا أعمل بسنة رسول الله. ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم؛ ولكن غلب عليهم الشقاء.
قال عاصم :
فابرأ ممن خالف عملك، ورد أحكامهم.
قال عمر :
أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من أسلافكما، وممن تتوليان وتشهدان لهما بالنجاة؟
قالا :
اللهم نعم.
قال :
فهل علمتما أن أبا بكر حين قبض رسول الله فارتدت العرب قاتلهم فسفك الدماء، وأخذ الأموال، وسبى الذراري؟
قالا :
نعم.
قال :
فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر فرد تلك السبايا إلى عشائرها بفدية؟
قالا :
نعم.
قال :
فهل برئ عمر من أبي بكر؟ أو تبرؤون أنتم من أحد منهما؟
قالا :
لا.
قال :
فأخبراني عن أهل النهروان، أليسوا من صالحي أسلافكم، وممن تشهدون لهم بالنجاة؟
قالا :
بلى.
قال :
فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفوا أيديهم فلم يسفكوا دما، ولم يخيفوا آمنا، ولم يأخذوا مالا؟
قالا :
نعم.
قال :
فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حيا من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الإقط وهي تفور؟
قالا :
قد كان ذلك.
قال :
فهل برئ أهل البصرة من أهل الكوفة، وأهل الكوفة من أهل البصرة؟
قالا :
لا.
قال :
فهل تبرؤون أنتم من إحدى الطائفتين؟
قالا : لا.
قال :
أرأيتم الدين واحدا أم اثنين؟
قالا :
بل واحدا.
قال :
فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟
قال لا .
قال :
فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة وتولى بعضهم بعضا وقد اختلفوا في أعظم الأشياء في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم؟!
ويحكم إنكم قوم جهال أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تردون على الناس ما قبل منهم رسول الله ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده.
قالا :
ما نحن كذلك.
قال عمر :
بل سوف تقرون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى خلع الأوثان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأحرز ماله ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين؟
قالا :
نعم.
قال :
أفلستم أنتم تلقون من يخلع الأوثان، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتستحلون دمه وماله، وتلقون من ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه؟!
فقال اليشكري:
أرأيت رجلا ولي قوما وأموالهم فعدل فيها، ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله -عز وجل- أو تراه قد سلم؟
قال عمر :
لا.
قال :
أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق.
قال :
إنما ولاه غيري، والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي.
قال :
أفترى ذلك من صنع من ولاه حقا؟
فبكى عمر، وقال :
أنظراني ثلاثا.
فخرجا من عنده، ثم عادا إليه، فقال عاصم :
أشهد أنك على حق.
فقال عمر لليشكري :
ما تقول أنت؟
قال :
ما أحسن ما وصفت؛ ولكن لا أفتات على المسلمين بأمر أعرض عليهم ما قلت وأعلم حجتهم.
فأما عاصم فأقام عند عمر فأمر له عمر بالعطاء فتوفي بعد خمسة عشر يوما فكان عمر يقول : أهلكني أمر يزيد، وخصمت فيه، فأستغفر الله.
فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد من ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سما، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثا حتى مرض ومات.