المنطلقات الإيديولوجية للتسمية، والبدايات
قام المحتوى اليهودي للمشروع الصهيوني في فلسطين على إدعاء "يهودية البلاد وعودة اليهود إلى وطنهم ". وجرى بناء جيش جرَّار من المقولات الغيبية، بهدف ترويج هذا الإدعاء في النطاقين اليهودي والعالمي. ونشطت المحاولات الصهيونية الرامية إلى توفير الأغطية النظرية للعمل الصهيوني، بسبب أهمية التعاضد بين عاملي الإيديولوجيا والقوة في تهويد فلسطين، وإقامة الدولة الصهيونية.
كانت نسبة فلسطين إلى اليهود، وتهويد أسماء معالمها، في القلب من توجهات الصهيونية غير اليهودية، قبل ولادة الصهيونية السياسية. وسواء من حيث المنهجية أو الأفعال على الأرض، يعود الفضل في التفكير والأداء الخاص بتهويد أسماء المعالم الفلسطينية إلى " صندوق استكشاف فلسطين " الذي قام بعملية مسح للبلاد بين 1871_ 1877، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10آلاف اسم نقلت بحروف إنجليزية. بعد ذلك طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال :
- الأولى، عليها الأسماء العربية الحديثة .
- الثانية، عليها أسماء العهد القديم ( التناخ ).
- الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد ( الأناجيل ).
- الرابعة، عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها .
ومن أهم النتائج التي أسفر عنها العمل، برأي العاملين في الصندوق، تحديد أعداد كبيرة من الأماكن المذكورة في التوراة لم تكن مواقعها معروفة سابقاً ( 622 اسماً توراتياً في غرب الأردن كان قد تحدد منها 262 اسماً قبل العام 1870 ). وطبقاً لما نشر عن الصندوق، وضع الكولونيل كوندر منهجية للخرائط التي صمّمها، محاولا تعيين مواقع الأسماء التي ورد ذكرها في" العهد القديم "ورسم حدود أسباط بني إسرائيل الإثني عشر، وقام بما يسمى " اقتفاء آثار الجيوش الغازية والهجرة القديمة "، بالإضافة إلى قراءة النقوش الباقية وفك رموزها. وفي المنحى ذاته، تحدث بيسانت ( السكرتير الفعلي للصندوق لمدة 25 عاماً ) عن العمل الذي قاموا به ،قائلا: "كنا نقوم بثورة كاملة في فهم التوراة ودراستها ، كنا نحيي العظام وهي رميم، كنا نستعيد مجد فلسطين في عهد هيرودس، كنا نستعيد بلاد داوود، كنا نردُّ إلى الخارطة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع. لقد أعدنا البلاد ( فلسطين ) إلى العالم، بالخارطة وبالأسماء والأماكن المذكورة في التوراة. واسمحوا لي أن أفاخر بذلك، إذا علمتم أن شخصاً واحداً (هو كوندر) قد استعاد من الأسماء القديمة، أكثر مما فعله جميع الباحثين والرحالين حتى الآن. عندما وضعنا الأسماء القديمة في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبع سير الجيوش في زحفها ".
منذ ذلك الحين بدأت التعدّيات على التاريخ الفلسطيني خدمة للمشروع الصهيوني، عبر إقحام الرواية التناخية على هذا التاريخ الذي يثبت الباحثون والمنصفون أنه طُمس وأُسكت، ليحلّ محله تاريخ مختلف، لرواية لم تؤكد التنقيبات الأثرية صحتها، باعتراف الكثيرين من علماء الآثار اليهود أنفسهم .
قبل تأسيس إسرائيل كانت " الهوية اليهودية " لفلسطين إحدى المسلمات التي لا جدال فيها لدى التيارات الصهيونية المختلفة، وقد عبّر المفكر اليهودي موشي مينو حين في كتابة " انحطاط اليهودية في عصرنا " عن تشريب الناشئة اليهود المفاهيم الصهيونية المتعلقة بفلسطين وبدولة اليهود القادمة على الطريق. فتحدث عن دراسته في مدرسة " جمنازيا هرتسليا العبرية " قائلاً : " كانوا يعلموننا يومياً واجباتنا المقدسة نحو عمينو، أرتسينو، مولادتينو ( شعبنا، بلدنا، وطننا ). وغرسوا في قلوبنا الفتية بشكل متكرر أن أرض الآباء يجب أن تعود لنا مطهّرة من الغوييم ( نظيفة من الأجانب ـ العرب ) وعلينا تكريس حياتنا لهذا الغرض".
يقدّم شموئيل كاتس ( عضو الكنيست الأولى وأحد مؤسسي حركة أرض إسرائيل الكاملة، ومستشار رئيس الحكومة مناحيم بيغن أواخر السبعينات ) نسخة تقليدية للتوصيف الصهيوني الخاص بموقع فلسطين في الصراع الدائر حول هويتها. فيذهب في أحد مقالاته إلى أن ليس هناك شعب فلسطيني تاريخي، وليس هناك في التاريخ العربي شيء اسمه فلسطين. ويورد قول بن غوريون (رئيس الوكالة اليهودية ) أمام اللجنة الأنجلو أميركية للتحقيق عام 1945 بأن " هذا البلد صنع منا شعباً، وشعبنا صنع هذا البلد. لم يصنع أي شعب آخر غيرنا هذا البلد، كما أن هذا البلد لم ينجب أي شعب آخر ". ثم يكتب كاتس تاريخاً حسب القوالب الصهيونية، فيذكر أن صلة الشعب اليهودي بـ "أرض إسرائيل " فريدة من نوعها في تاريخ الشعوب، وقد فرض اسم فلسطين عليها من قبل القيصر ادريانوس. ويتحدث عن تاريخ البلاد حتى الاحتلال البريطاني (1918) زاعماً أنه طوال هذه القرون لم يفلح أحد في القضاء على الوجود اليهودي في " أرض إسرائيل "، وعلى الرغم من حكم البلاد من قبل 14 جهة أجنبية، فقد كان التراث الحضاري اليهودي هو الوحيد والأوحد الذي تميز به واقع " أرض إسرائيل". ثم يعزو وجود العرب في البلاد إلى هجرة أبناء المناطق المجاورة في القرنين الماضيين. ويورد سيلاً من الأوهام في أن اسم فلسطين كان ملازماً للشعب اليهودي، ولم يتخذ العرب لأنفسهم هذا الاسم إلا تدريجياً. ويرى أن النجاح في محو هذه الحقيقة من أذهان الكثيرين في العالم كله ومن أذهان الكثيرين من اليهود شهادة قاطعة على النجاح غير العادي الذي حققته الدعاية العربية .فمثلا ـ يتابع كاتس ـ كانت كل مؤسسة تحمل اسم فلسطين في العالم هي مؤسسة صهيونية : النادي الفلسطيني في باريس ـ مصرف انكلو /فلسطين ـ الصندوق التأسيسي لفلسطين ـ صندوق مال فلسطين ـ الفرقة الموسيقية الفلسطينية ـ شركة الكهرباء الفلسطينية ـ الإقليم البحري الفلسطيني ـ شركة البوتاس الفلسطينية .وبالمثل: أناشيد فلسطين في المهجر كانت أناشيد صهيونية ـ عيد الشجرة الفلسطيني ـ أحد الكتاب الصهيونيين وقع مقاله بعبارة " رأي فلسطيني ". ويضيف كاتس قائلاً :" لقد غير اليهود صفة فلسطيني لدى إقامة دولة إسرائيل ونشوء الهوية السياسية إلى إسرائيلي، وعندئذٍ تلقف السياسيون العرب الفكرة وتحولوا إلى فلسطينيين منذ القدم وجعلوا فلسطين وطناً لهم، ومن هنا تطورت الخرافة بنجاح مذهل ".
هذا جزء يسير من القصف التضليلي الصهيوني بالمفاهيم والمقولات ذات الصلة باغتصاب الاسم للوصول إلى نتيجة واضحة وهي أن العرب غير موجودين في فلسطين، وإذا وجد أناس فيها فهم أغراب عنها. وفي ظل الإصرار على تسويق الرؤية الصهيونية، كان الربط بين اليهود واسم البلاد يمثل رافعة للعمل الصهيوني الرامي إلى تهويد فلسطين ووحدانية ملكيتها لليهود. ففي أحد الكيبوتسات قال مناحيم بيغن " إن اليهود لو تحدثوا عن فلسطين بدلاً من ايرتس يسرائيل، فإنهم يفقدون كل حق لهم في الأرض، لأنهم بذلك يعترفون ضمناً بأن هناك وجوداً فلسطينياً، وبالتالي إن عبارة أرض إسرائيل تدل على عدم الاعتراف بأي شعب آخر على هذه الأرض ". وضمن محاضرة ألقاها موشي دايان في معهد التخنيون بحيفا، جاء : "إن فلسطين كانت موجودة، لكنها لم تعد كذلك الآن. جزء منها أصبح إسرائيل، والجزء الآخر اندمج في المملكة الأردنية .. لقد فضَّل العرب الانضمام إلى هذه المملكة والتخلي عن خصوصيتهم السياسية، و قد أنهى هذا الحدث مصير فلسطين السياسي". ويتخرص آخرون بالقول :إن اسم هذه الأرض لآلاف السنين هو " ايرتس يسرائيل " (الأرض اليهودية الموعودة) أما كلمة فلسطين فإنها لم تستعمل إلاّ في اللغتين الإنجليزية والألمانية. وأن أبسط تعريف للصهيونية هو ما قاله هرتزل بأنها تعني استبدال اسم فلسطين بالدولة اليهودية .
أمام قوة اسم فلسطين ومدلولاته التاريخية والسياسية، سعى الصهيونيون إلى حسم المسألة عبر تحريف هذه المدلولات. وعلى سبيل المثال، كان مناحيم بيغن ( رئيس حكومة إسرائيل وزعيم الليكود الأسبق ) يشدد على حرف "ش" من أجل إبراز مصدر الاسم البلشتي. وتباينت الآراء حتى اليوم حول التسمية الصحيحة ـ من وجهة نظر الصهيونيين ـ هل هي بلشتين (التناخية) أم فلسطين ( السياسية ). وبعد حرب 1967، أطلق " الصقور " على الفلسطينيين تسمية بلشتنيم، أما " الحمائم " فأطلقوا عليهم تسمية فلسطينيين. وحتى تاريخه، يكتبون في أخبار قناة التلفزيون الأولى فلسطينيين، أما صحيفة هآرتس فتكتب بلشتنيم. هنا إذن محاولة لجعل مدلول الكلمة في خدمة تهويد المكان، واستبدال هويته.
تنطوي عملية الاستبدال هذه على مسعى محموم لامتلاك البلاد وحرمان العرب من الانتساب إليها. وطبقاً لتقديرات بعض المتخصصين، وصل هذا الحرمان إلى درجة انتحال الاسم القديم للمكان. فمثلاً ـ يقول د. أحمد سوسة ـ إن الصهيونية مشتقة من لفظة " صهيون "، وهي رابية في أورشليم كان قد أقام عليها اليبوسيون أبناء عمومة الكنعانيين العرب حصناً قبل ظهور بني إسرائيل ( قوم موسى ) بحوالي ألفي عام .ولذا تكون لفظة "صهيونية" كنعانية ( عربية ) وليست عبرية ( يهودية ) شأنها في هذا شأن أسماء مدن وقرى فلسطين القديمة التي كانت ولا تزال تحمل أسماءها الكنعانية الأصلية حتى يومنا هذا .
ارتباطاً بالتسمية اليهودية للبلاد، فضل الصهيونيون استخدام اسم " إسرائيل " لدولتهم بدلاً من الاسم الذي كان قد اختاره هرتزل وهو" دولة اليهود"لأسباب ـ أوردها د. رشاد عبد الله الشامي ـ هي:
- إيجاد تناسق بين اسم الدولة والاسم العبري لفلسطين وهو " ايرتس يسرائيل".
- إيثار الصفة العنصرية الكامنة في اسم إسرائيل على الصفة الدينية في لفظة اليهود .
- عدم الرغبة في التذكير بالحدود القديمة لمملكة يهودا البائدة التي لم تكن تشمل إلا القسم الجنوبي من فلسطين من دون ساحل البحر(..)، مما يمثل قيداً تاريخياً للمطامع التوسعية الاستعمارية للصهاينة .
في مسعى لحقن هذه التوجهات بمضامين مادية وسياسية، تسايرت عملية تهويد فلسطين بأرضها وأسماء معالمها مع محاولة طمس عروبتها وتشويه هوية شعبها، حتى أنهم سرّبوا مضامين مسمومة لمعنى " الفلسطينيين " إلى المعاجم الأجنبية، و صار هذا المعنى في معجم أوكسفورد مثلاً " أحد الشعوب الغريبة المعادية التي أغارت على شعب إسرائيل " ووصف الشعب الفلسطيني بأنه غير حضاري، غريب، معيب ..الخ.
لقد تنبه الصهيونيون إلى موضوع أسماء المعالم الفلسطينية منذ وقت مبكر، وتوصلوا إلى أن هذا الموضوع يرتبط بهوية الدولة وطبيعتها. لهذا سعوا بعد تأسيس إسرائيل إلى معالجة المسألة كحالة تطبيقية في عملية تهويد البلاد. وتم التشديد على هذا الربط بين الدولة ككيان سياسي منظم وبين ما يسمى " القومية العبرانية التوراتية"، حسب تحديدات بن غوريون ( أول رئيس حكومة لإسرائيل ) ،الذي كان يركز على أن هناك ضرورة لبلورة طابع عبري وأسلوب عبري لم يكونا قائمين في السابق، ولم يكن بالإمكان إقامتهما في المنفى.
وهكذا صار وعي إسرائيل لذاتها وعياً عبرياً، من حيث كونه يستمد مادة الحياة التاريخية من العهد القديم ( التناخ ) ومن التلمود، أي أنه مدعوم بأشباح الماضي. وحسب اسحق دويتشر، إن الأغلبية الساحقة من هذا الجيل من الإسرائيليين لم تكن لها أي جذور في إسرائيل، وإن إسرائيل هي دولة الأشخاص المنقولين (دولة الشخص الطريد، المشرَّد)، وهذا هو السبب في أنهم يتحدثون كثيراً عن " الجذور الضاربة " وزرع الجذور.
إن عقيدة "التشريش" هذه هي إحدى السمات اللصيقة بالخطاب الإيديولوجي الصهيوني ـ الإسرائيلي. وبالمثل، إن استخدام التاريخ والأسطورة لتفسير الوضع السياسي المعاصر والأحداث الراهنة هو علامة مميزة لما يسمى " الثقافة السياسية الإسرائيلية ". وتعكس عملية تهويد أسماء المعالم الفلسطينية هاتين الخاصتين