تحت مشهد عدسة الكاميرا، عادت زينب جابر لبرهة زمنية إلى منزلها في قرية دير ياسين بعد ستين عاماً بالضبط على خروجها منه بقوة السلاح وخطة التطهير العرقي، ونجت مع والدتها وشقيقتها فاطمة باعجوبة من المذبحة، ثم استقرت في بلدة بيت حنينا شمال القدس بمنزل متواضع مهدد بالهدم.
قرب البيوت القديمة التي تحولت إلى مشفى للمصابين بالأمراض العقلية، وقفت زينب على مدخل بيتها تروي حكاية المذبحة: تعرضنا لاعتداء بالسلاح فجر التاسع من نيسان عام 1948، وتمكنت والدتي بصعوبة تدبير مسلكاً لنجاتي وشقيقتي برفقتها، وعلمنا لاحقاً أن كل أفراد العائلة تعرضت للذبح. رصدت كاميرا 'الجزيرة' في قصتها الصحافية المتميزة بالسنوية الستين للمذبحة ذكريات زينب الطفولية وأعادت لها خطفاً الأماكن التي شهدت أيام طفولتها الأولى: هنا كانت جدتي تهتم بتنقية الزيتون وتجميعه قبل إرساله للمعصرة، ومن هنا كانت الطريق إلى المدرسة الوحيدة في القرية..سجلت مراسلة 'الجزيرة' الزميلة شيرين أبو عاقلة في قصتها الإخبارية التي لم تتجاوز ثلاث دقائق لحظات مؤثرة للمسنة زينب وهي تستعيد ذكرياتها المذبوحة.
فجر التاسع من نيسان عام 1948، هاجمت العصابات الصهيونية المسلحة متخذة من 'غفعات شاؤول' المجاورة مركزاً لإدارة خطة المذبحة على الأرض، واستهدف المعتدون المنازل المسالمة في القرية منفذين حملة تطهير عرقي أدت إلى استشهاد 245 من مواطني القرية أغلبهم من النساء والأطفال وإجلاء الباقي. وجاء في صفحات من تاريخ الهاغاناة أن المجموعات الصهيونية المسلحة احتجزت عدداً من الأسرى وطافت 'بموكب نصر' في شوارع القدس وسط هتافات الجمهور اليهودي، ثم أعيدوا بعد ذلك إلى القرية حيث تعرضوا للقتل بدم بارد.
وضمن سلسلة توثيق التاريخ الشفوي للقرى الفلسطينية المدمرة، أصدر مركز أبحاث جامعة بيرزيت منذ خمس عشرة سنة وتحت إشراف مدير المركز الأسبق الدكتور شريف كناعنة، أحد الإصدارات التي تناولت التاريخ الشفوي لقرية دير ياسين مبرزاً شهادات الناجين من المذبحة.وفي كتاب 'رائدات من بلدي' الذي يصدر قريباً عن طاقم شؤون المرأة في رام الله، تروي ابتسام زيدان مسؤولة اتحاد لجان كفاح المرأة، وقائع المذبحة على أفراد أسرتها:'احتلت ذاكرة والدتي حتى رحيلها عام 1998 حكاية القتل الأعمى في بلدتنا دير ياسين، وكانت على الدوام تعيد لنا رواية أحداثها بين حين وآخر، ووقائع استشهاد والدتها وشقيقها الأكبر وشقيقتها الرضيعة وعدد من أفراد العائلة، فيما نال أربعة من أشقائها جراحاً بالغة. أعادت والدتي رواية تفاصيل دقيقة جداً عن لحظات المذبحة عندما تطوع والدي وأحد أعمامي في لجنة حراسة البلدة، فتعرض عمي للرصاص المباغت وظل ينزف محاصراً بالرصاص تحت بصر أبي حتى استشهد، ثم تعرض منزل جدي لقصف مباشر، سارع والدي لإنقاذه، لكن القدر كان سباقاً وسجل التحاق جدي بقافلة الشهداء إلى جوار عمي وآخرين كثر من البلدة'.
على صفحات كتابه الضخم والمتميز ' كي لا ننسى' الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت عام 1997 وثّق الدكتور وليد الخالدي لجوانب حيوية للقرية: تقع دير ياسين على المنحدرات الشرقية لتل يبلغ ارتفاع قمته نحو 800 متر، وتطل على مشهد واسع جميل من جميع الجهات، وتقع على بعد خمسة كيلو متر غربي القدس، ويربطها طريق فرعي بالخط الواصل بين مدينة يافا والقدس، وبلغ عدد سكانها عام 1948 نحو 750 نسمة سكنوا 144 منزلا. تقدر مساحة أراضيها بنحو ثلاثة آلاف دونما، وأقيم على جزء منها عام 1906 مستوطنة أطلق عليها 'غفعات شاؤول' وبات يقتضي العبور إلى القدس المرور عبر التجمع السكاني اليهودي الجديد، وبعد النكبة الكبرى أقيمت مستعمرة 'غفعات شاؤول' تيمناً بالمستعمرة القديمة، فيما شغل منازل القرية مشفى للأمراض العقلية، وأستخدم ما تبقى من منازل لأغراض سكنية وتجارية ومستودعات، في حين تتعرض المقبرة الواقعة شرق البلدة إلى الإهمال وتكتسحها أنقاض الطريق الدائري الذي شق حول تل القرية.
في شهادات الأحياء الناجين من المذبحة، سواء بالقصة الصحافية أو الأفلام التسجيلية والروايات التاريخية الموثقة والمقالات والبيانات والمؤتمرات وكذلك الاعتصام الشعبي وغيرها من وسائل كشف الحقائق وتعرية الجلاد.. يبدو بوضوح أن المذبحة لم تتوقف منذ ستين عاماً، وهي متواصلة قبل دير ياسين مروراً بكفر قاسم وبغداد وبيروت ومدرسة بحر البقر المصرية وليس انتهاء بمخيم جنين وقطاع غزة لتثبت أن القاتل الطليق واحد والضحية واحدة.